فصل: سئل: عن دخول النصراني أو اليهودي في المسجد بإذن المسلم؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وسئل ـ رحمه الله ـ عن الحديث‏:‏ ‏(‏أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سجادة‏)‏، فقد أورد شخص عن عبد الله بن عمر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه توضأ وقال‏:‏ ‏(‏يا عائشة، ائتيني بالخمرة فأتت به‏.‏ فصلى عليه‏)‏‏.‏

فأجاب‏:‏

لفظ الحديث‏:‏ ‏(‏أنه طلب الخمرة‏)‏ والخمرة‏:‏ شيء يصنع من الخوص،/فسجد عليه يتقي به حر الأرض، وأذاها‏.‏ فإن حديث الخمرة صحيح‏.‏ وأما اتخاذها كبيرة يصلي عليها يتقي بها النجاسة ونحوها، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتخذ سجادة يصلي عليها، ولا الصحابة، بل كانوا يصلون حفاة ومنتعلين، ويصلون على التراب والحصير، وغير ذلك، من غير حائل‏.‏

وقد ثبت عنه في الصحيحين‏:‏ أنه كان يصلي في نعليه، وقال‏:‏ ‏(‏إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم‏)‏ وصلى مرة في نعليه وأصحابه في نعالهم فخلعهما في الصلاة، فخلعوا، فقال‏:‏ ‏(‏ما لكم خلعتم نعالكم‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ رأيناك خلعت فخلعنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما أذى، فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور‏)‏‏.‏

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصلون في نعالهم، ولا يخلعونها، بل يطؤون بها على الأرض، ويصلون فيها، فكيف يظن أنه كان يتخذ سجادة يفرشها على حصير، أو غيره، ثم يصلي عليها‏؟‏ فهذا لم يكن أحد يفعله من الصحابة‏.‏ وينقل عن مالك أنه لما قدم بعض العلماء، وفرش في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك أمر بحبسه‏.‏ وقال‏:‏ أما علمت أن هذا في مسجدنا بدعة‏؟‏‏!‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ أيضًا ـ رحمه الله ـ/عمن تَحَجَّر موضعًا من المسجد، بسجادة أو بساط أو غير ذلك‏.‏ هل هو حرام‏؟‏ وإذا صلى إنسان على شيء من ذلك بغير إذن مالكه هل يكره أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس لأحد أن يتَحَجَّر من المسجد شيئًا لا سجادة يفرشها قبل حضوره، ولا بساطا، ولا غير ذلك‏.‏ وليس لغيره أن يصلي عليها بغير إذنه، لكن يرفعها ويصلي مكانها‏.‏ في أصح قولي العلماء‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عن دخول النصراني أو اليهودي في المسجد بإذن المسلم، أو بغير إذنه أو يتخذه طريقًا‏.‏ فهل يجوز‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس للمسلم أن يتخذ المسجد طريقًا، فكيف إذا اتخذه الكافر طريقًا‏؟‏ فإن هذا يمنع بلا ريب‏.‏

/وأما إذا كان دخله ذمي لمصلحة، فهذا فيه قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يجوز‏.‏ وهو مذهب مالك؛ لأن ذلك هو الذي استقر عليه عمل الصحابة‏.‏

والثاني‏:‏ يجوز‏.‏ وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وفي اشتراط إذن المسلم وجهان، في مذهب أحمد، وغيره‏.‏

 وسئل‏:‏هل تصح الصلاة في المسجد إذا كان فيه قبر، والناس تجتمع فيه لصلاتي الجماعة والجمعة أم لا‏؟‏ وهل يمهد القبر، أو يعمل عليه حاجز أو حائط‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، اتفق الأئمة أنه لا يبنى مسجد على قبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏

/وأنه لا يجوز دفن ميت في مسجد‏.‏ فإن كان المسجد قبل الدفن غُيِّر‏:‏ إما بتسوية القبر، وإما بنبشه إن كان جديدًا‏.‏

وإن كان المسجد بني بعد القبر‏:‏ فإما أن يزال المسجد، وإما أن تزال صورة القبر، فالمسجد الذي على القبر لا يصلي فيه فرض، ولا نفل، فإنه منهي عنه‏.‏

 وسئل عن جماعة نازلين في الجامع مقيمين ليلاً ونهارًا وأكلهم وشربهم ونومهم وقماشهم وأثاثهم، الجميع في الجامع، ويمنعون من ينزل عندهم من غير جنسهم، وحكروا الجامع، ثم إن جماعة دخلوا بعض المقاصير يقرؤون القرآن احتسابًا، فمنعهم بعض المجاورين وقال هذا موضعنا‏.‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، ليس لأحد من الناس أن يختص بشيء من المسجد بحيث يمنع غيره منه دائمًا، بل قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إيطان كإيطان البعير‏.‏

قال العلماء‏:‏ معناه أن يتخذ الرجل مكانًا من المسجد لا يصلي/إلا فيه، فإذا كان ليس له ملازمة مكان بعينه للصلاة، كيف بمن يتحجر بقعة دائمًا‏.‏ هذا لو كان إنما يفعل فيها ما يبنى له المسجد من الصلاة والذكر ونحو ذلك، فكيف إذا اتخذ المسجد بمنزلة البيوت فيه أكله وشربه ونومه وسائر أحواله التي تشتمل على ما لم تبن المساجد له دائمًا‏؟‏ فإن هذا يمنع باتفاق المسلمين، فإنما وقعت الرخصة في بعض ذلك لذوى الحاجة، مثل ما كان أهل الصفة؛ كان الرجل يأتى مهاجرًا إلى المدينة، وليس له مكان يأوى إليه، فيقيم بالصفة إلى أن يتيسر له أهل أو مكان يأوى إليه‏.‏ ثم ينتقل‏.‏ ومثل المسكينة التي كانت تأوى إلى المسجد، وكانت تَقَمُّه‏.‏ ومثل ما كان ابن عمر يبيت في المسجد، وهو عزب؛ لأنه لم يكن له بيت يأوي إليه حتى تزوج‏.‏

ومن هذا الباب علي بن أبي طالب، لما تقاول هو وفاطمة ذهب إلى المسجد فنام فيه‏.‏ فيجب الفرق بين الأمر اليسير، وذوى الحاجات، وبين ما يصير عادة ويكثر، وما يكون لغير ذوي الحاجات؛ ولهذا قال ابن عباس‏:‏ لا تتخذوا المسجد مبيتًا ومقيلاً‏.‏ هذا، ولم يفعل فيه إلا النوم، فكيف ما ذكر من الأمور‏؟‏‏!‏ والعلماء قد تنازعوا في المعتكف هل ينبغي له أن يأكل في المسجد، أو في بيته، مع أنه مأمور بملازمة المسجد، وألا يخرج منه إلا لحاجة‏؟‏ والأئمة كرهوا اتخاذ المقاصير في المسجد، لما أحدثها بعض الملوك؛ لأجل الصلاة خاصة، وأولئك إنما /كانوا يصلون فيها خاصة‏.‏

فأما اتخاذها للسكنى والمبيت وحفظ القماش والمتاع فيها، فما علمت مسلمًا ترخص في ذلك‏.‏ فإن هذا يجعل المسجد بمنزلة الفنادق التي فيها مساكن مُتَحَجَّرة، والمسجد لابد أن يكون مشتركًا بين المسلمين، لا يختص أحد بشيء منه، إلا بمقدار لبثه للعمل المشروع فيه، فمن سبق إلى بقعة من المسجد لصلاة أو قراءة أو ذكر أو تعلم عِلْم أو اعتكاف ونحو ذلك، فهو أحق به حتى يقضى ذلك العمل، ليس لأحد إقامته منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ولكن يوسع ويفسح‏.‏ وإذا انتقض وضوؤه ثم عاد فهو أحق بمكانه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سَنَّ ذلك، قال‏:‏ ‏(‏إذا قام الرجل عن مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به‏)‏‏.‏

وأما أن يختص بالمقام والسكنى فيه، كما يختص الناس بمساكنهم، فهذا من أعظم المنكرات باتفاق المسلمين‏.‏ وأبلغ ما يكون من المقام في المسجد مقام المعتكف، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في المسجد، وكان يحتجر له حصيرًا فيعتكف فيه، وكان يعتكف في قبة، وكذلك كان الناس يعتكفون في المساجد، ويضربون لهم فيه القباب فهذا مدة الاعتكاف خاصة‏.‏ والاعتكاف عبادة شرعية، وليس للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لما لابد منه، والمشروع له/ ألا يشتغل إلا بقربة إلى الله، والذي يتخذه سكنًا ليس معتكفًا بل يشتمل على فعل المحظور، وعلى المنع من المشروع، فإن من كان بهذه الحال، منع الناس من أن يفعلوا في تلك البقعة ما بنى له المسجد من صلاة وقراءة وذكر، كما في الاستفتاء أن بعضهم يمنع من يقرأ القرآن في تلك البقعة، كغيره من القراء، والذي فعله هذا الظالم منكر من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ اتخاذ المسجد مبيتًا ومقيلاً وسكنًا، كبيوت الخانات، والفنادق‏.‏

والثانى‏:‏ منعه من يقرأ القرآن حيث يشرع‏.‏

والثالث‏:‏ منع بعض الناس دون بعض، فإن احتج بأن أولئك يقرؤون لأجل الوقف الموقوف عليهم، وهذا ليس من أهل الوقف، كان هذا العذر أقبح من المنع؛ لأن من يقرأ القرآن محتسبًا، أولى بالمعاونة ممن يقرأه لأجل الوقف، وليس للواقف أن يغير دين الله، وليس بمجرد وقفه يصير لأهل الوقف في المسجد حق لم يكن لهم قبل ذلك؛ ولهذا لو أراد الواقف أن يحتجر بقعة من المسجد لأجل وقفه بحيث يمنع غيره منها، لم يكن له ذلك‏.‏ ولو عين بقعة من المسجد لما أمر به من قراءة أو تعليم ونحو ذلك لم تتعين تلك البقعة، كما لا تتعين فى/ النذر‏.‏ فإن الإنسان لو نذر أن يصلي ويعتكف في بقعة من المسجد لم تتعين تلك البقعة، وكان له أن يصلي ويعتكف في سائر بقاع المسجد عند عامة أهل العلم، لكن هل عليه كفارة يمين‏؟‏ على وجهين في مذهب أحمد‏.‏

وأما الأئمة الثلاثة، فلا يوجبون ـ عليه كفارة ـ وهذا لأنه لا يجب بالنذر إلا ما كان طاعة بدون النذر، وإلا فالنذر لا يجعل ما ليس بعبادة عبادة، والناذر ليس عليه أن يوقف إلا ما كان طاعة لله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏)‏‏.‏

ولهذا لو نذر حرامًا أو مكروهًا أو مباحًا مستوى الطرفين، لم يكن عليه الوفاء به‏.‏

وفى الكفارة قولان أوجبها في المشهور أحمد، ولم يوجبها الثلاثة‏.‏

وكذلك شرط الواقف والبائع وغيرهما‏.‏

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله‏؟‏ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق‏)‏‏.‏ وهذا كله/ لأنه ليس لأحد أن يغير شريعته التي بعث بها رسوله، ولا يبتدع في دين الله ما لم يأذن به الله، ولا يغير أحكام المساجد عن حكمها الذي شرع الله ورسوله‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن النوم في المسجد، والكلام والمشي بالنعال في أماكن الصلاة، هل يجوز ذلك أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما النوم أحيانًا للمحتاج مثل الغريب والفقير الذي لا مسكن له فجائز‏.‏ وأما اتخاذه مبيتًا ومقيلاً فينهون عنه‏.‏

وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله في المسجد فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريمًا‏.‏ وكذلك المكروه‏.‏ ويكره فيه فضول المباح‏.‏

وأما المشي بالنعال فجائز، كما كان الصحابة يمشون بنعالهم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ لكن ينبغى للرجل إذا أتى المسجد أن يفعل ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فينظر في نعليه، فإن كان بهما أذى، فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل عن السواك وتسريح اللحية في المسجد‏:‏ هل هو جائز أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما السـواك في المسجد فما علمت أحدًا من العلماء كرهه، بل الآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون في المسجد، ويجوز أن يبصق الرجل في ثيابه في المسجد، ويمتخط في ثيابه، باتفاق الأئمة وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، بل يجوز التوضؤ في المسجد بلا كراهة عند جمهور العلماء‏.‏ فإذا جاز الوضوء فيه ـ مع أن الوضوء يكون فيه السواك، وتجوز الصلاة فيه، والصلاة يستاك عندها ـ فكيف يكره السواك‏؟‏‏!‏ وإذا جاز البصاق والامتخاط فيه، فكيف يكره السواك‏.‏

وأما التسريح‏:‏ فإنما كرهه بعض الناس بناء على أن شَعْر الإنسان المنفصل نجس، ويمنع أن يكون في المسجد شيء نجس، أو بناء على أنه كالقذاة‏.‏ وجمهور العلماء على أن شَعْر الإنسان المنفصل عنه طاهر‏.‏ كمذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في ظاهر مذهبه، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي ـ وهو الصحيح‏.‏ فإن النبي/ صلى الله عليه وسلم حلق رأسه، وأعطى نصفه لأبى طلحة، ونصفه قَسَمَه بين الناس‏.‏

و‏[‏باب الطهارة والنجاسة‏]‏ يشارك النبي صلى الله عليه وسلم فيه أمته، بل الأصل أنه أسوة لهم في جميع الأحكام، إلا ما قام فيه دليل يوجب اختصاصه به‏.‏

وأيضًا، الصحيح الذي عليه الجمهور أن شعور الميتة طاهرة، بل في أحد قولي العلماء ـ وهو ظاهر مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين ـ أن جميع الشعور طاهرة حتى شعر الخنزير، وعلى القولين إذا سرح شعره وجمع الشعر فلم يترك في المسجد فلا بأس بذلك‏.‏

وأما ترك شعره في المسجد، فهذا يكره، وإن لم يكن نجسًا، فإن المسجد يصان حتى عن القذاة، التي تقع في العين‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن الضحايا‏:‏ هل يجوز ذبحها في المسجد‏؟‏ وهل تغسل الموتى، وتدفن الأجنة فيها‏؟‏ وهل يجوز تغيير وقفها من غير منفعة تعود عليها‏؟‏ وهل يجوز الاستنجاء في المسجد، والغسل‏؟‏ وإذا لم يجز، فما جزاء/ من يفعله، ولا يأتمر بأمر الله ولا ينتهى عما نهى عنه وإن أفتاه عالم سبه‏؟‏ وهل يجب على ولى الأمر زجره ومنعه، وإعادة الوقف إلى ما كان عليه‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز أن يذبح في المسجد‏:‏ لا ضحايا ولا غيرها، كيف والمجزرة المعدة للذبح قد كره الصلاة فيها، إما كراهية تحريم، وإما كراهية تنزيه‏؟‏‏!‏ فكيف يجعل المسجد مشابهًا للمجزرة، وفي ذلك من تلويث الدم للمسجد ما يجب تنزيهه‏؟‏‏!‏

وكذلك لا يجوز أن يدفن في المسجد ميت‏:‏ لا صغير، ولا كبير ولا جنين، ولا غيره‏.‏ فإن المساجد لا يجوز تشبيهها بالمقابر‏.‏

وأما تغيير الوقف لغير مصلحة، فلا يجوز، ولا يجوز الاستنجاء فيها‏.‏

وأما الوضوء ففي كراهته في المسجد نزاع بين العلماء، والأرجح أنه لا يكره‏.‏ إلا أن يحصل معه امتخاط أو بصاق في المسجد، فإن البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها، فكيف بالمخاط‏.‏

ومن لم يأتمر بما أمره الله به، وينته عما نهى الله عنه بل يرد على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإنه يعاقب العقوبة الشرعية التي توجب له ولأمثاله أداء الواجبات، وترك المحرمات‏.‏

/ولا تغسل الموتى في المسجد، وإذا أحدث في المسجد ما يضر بالمصلين أزيل ما يضرهم، وعمل بما يصلحهم، إما إعادته إلى الصفة الأولى، أو أصلح‏.‏ والله أعلم‏.‏

 وسئل عمن يعلم الصبيان في المسجد‏:‏ هل يجوز له البيات في المسجد‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، يصان المسجد عما يؤذيه، ويؤذي المصلين فيه، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم لحصره، ونحو ذلك‏.‏ لا سيما إن كان وقت الصلاة، فإن ذلك من عظيم المنكرات‏.‏

وأما المبيت فيه‏:‏ فإن كان لحاجة كالغريب الذي لا أهل له، والغريب الفقير الذي لا بيت له، ونحو ذلك، إذا كان يبيت فيه بقدر الحاجة، ثم ينتقل فلا بأس، وأما من اتخذه مبيتًا ومقيلاً، فلا يجوز ذلك‏.‏

/ وسئل ـ رحمه الله ـ عن مسجد يقرأ فيه القرآن والتلقين بكرة وعشية، ثم على باب المسجد شهود يكثرون الكلام، ويقع التشويش على القراء، فهل يجوز ذلك أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، ليس لأحد أن يؤذى أهل المسجد‏:‏ أهل الصلاة، أو القراءة، أو الذكر، أو الدعاء، ونحو ذلك مما بنيت المساجد له، فليس لأحد أن يفعل في المسجد، ولا على بابه أو قريبًا منـه مـا يشوش على هـؤلاء‏.‏ بل قـد خـرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابـه وهم يصلـون، ويجهرون بالقراءة‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس، كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة‏)‏‏.‏ فإذا كان قد نهى المصلى أن يجهر على المصلى، فكيف بغيره‏؟‏‏!‏ ومن فعل ما يشوش به على أهل المسجد، أو فعل ما يفضى إلى ذلك، منع من ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل عن السؤال في الجامع‏:‏ هل هو حلال أم حرام‏؟‏ أو مكروه‏؟‏ وأن تركه أوجب من فعله‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله، أصل السؤال محرم في المسجد وخارج المسجد، إلا لضرورة، فإن كان به ضرورة وسأل في المسجد، ولم يؤذ أحدًا بتخطيه رقاب الناس، ولا غير تخطيه، ولم يكذب فيما يرويه، ويذكر من حاله، ولم يجهر جهرًا يضر الناس، مثل أن يسأل والخطيب يخطب، أو وهم يسمعون عِلْمًا يشغلهم به، ونحو ذلك ـ جاز‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله‏:‏

 

فصـــل

فى ‏[‏استقبال القبلة‏]‏ وأنه لا نزاع بين العلماء في الواجب من ذلك وأن النزاع بين القائلين بالجهة والعين لا حقيقة له، قال الله ـ تعالى ـ‏:‏/ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144 ـ 150‏]‏ وشطره‏:‏ نحوه، وتلقاؤه، كما قال‏:‏

أقيمي أم زنباع أقيمي ** صدور العيش شَطْر بني تميم

وقال‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 148‏]‏ و ‏[‏الوجهة‏]‏ هي الجهة، كما في عدة، وزنة‏.‏ أصلها‏:‏ وعْدَة، ووزْنَة‏.‏ فالقبلة هي التي تستقبل، والوجهة هي التي يوليها‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ أمره بأن يولى وجهه شطر المسجد الحرام، و‏[‏المسجد الحرام‏]‏ هو الحرم كله، كما في قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ وليس ذلك مختصًا بالكعبة، وهذا يحقق الأثر المروي‏:‏ ‏(‏الكعبة قبلة المسجد، والمسجد قبلة مكة، ومكة قبلة الحرم، والحرم قبلة الأرض‏)‏ وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى في قبلى الكعبة ركعتين، وقال‏:‏ ‏(‏هذه القبلة‏)‏‏.‏ وثبت عنه في الصحيحين أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا، أو غربوا‏)‏‏.‏ فنهى عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وأمر باستقبالها في الصلاة، فالقبلة التي نهى عن استقبالها /واستدبارها بالغائط والبول هي القبلة التي أمر المصلى باستقبالها في الصلاة‏.‏

وقـال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مـا بين المشـرق والمغرب قبـلة‏)‏ قـال الترمذي‏:‏ حـديث صحيح‏.‏ وهكذا قـال غـير واحـد مـن الصحابـة مثـل‏:‏ عمـر، وعثمان، وعلى بن أبي طالب، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم‏.‏ ولا يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك نزاع، وهكذا نص عليه أئمة المذاهب المتبوعة، وكلامهم في ذلك معروف‏.‏ وقد حكى متأخرو الفقهاء في ذلك قولين في مذهب أحمد وغيره‏.‏

وقـد تأملت نصـوص أحمد في هذا الباب فوجدتها متفقة لا اختلاف فيها، وكذلك يذكر الاختلاف في مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وهو عند التحقيق ليس بخلاف، بل مـن قـال‏:‏ يجتهد أن يصلي إلى عـين الكعبة، أو فرضـه استقبال عين الكعبة بحسب اجتهاده فقد أصاب‏.‏ ومن قال‏:‏ يجتهد أن يصلي إلى جهة الكعبة أو فرضه استقبال القبلة فقد أصاب‏.‏ وذلك أنهم متفقون على أن من شاهد الكعبة فإنه يصلي إليها‏.‏ ومتفقون على أنه كلما قرب المصلون إليها كان صفهم أقصر من البعيدين عنها‏.‏ وهذا شأن كل ما يستقبل‏.‏

فالصف القـريب منها لا يزيد طوله على قدر الكعبة، ولو زاد/ لكان الزائد مصليًا إلى غير الكعـبة‏.‏ والصف الذي خلفـه يكون أطول مـنه وهلم جـرا‏.‏ فـإذا كـانت الصفوف تحت سقائف المسجـد، كـانت منحنـية بقـدر مـا يستقـبلون الكعـبة وهـم يصلون إليها، وإلى جهتها ـ أيضًا‏.‏ فـإذا بعـد الناس عنها كانوا مصلين إلى جهتها، وهـم مصلون إليها ـ أيضًا‏.‏ ولو كان الصف طـويلاً يزيـد طولـه على قـدر الكعـبة، صـحت صـلاتهم بـاتفاق المسلمـين، وإن كان الصف مستـقيمًا حيـث لم يشاهـدوهـا‏.‏ ومـن المعلـوم أنــه لو سار مـن الصفـوف على خـط مستـقيم إليها، لكان ما يزيد على قدرها خارجًا عن مسافتها‏.‏

فمـن توهم أن الفرض أن يقصد المصلي الصلاة في مكان لو سار على خط مستقيم وصـل إلى عين الكعبة فقد أخطأ‏.‏ ومن فسر وجوب الصلاة إلى العين بهذا وأوجب هذا فقـد أخطأ، وإن كان هذا قـد قاله قائل من المجتهدين فهذا القول خطأ خالف نص الكتاب والسنة وإجماع السلف، بل وإجماع الأمة‏.‏ فإن الأمة متفقة على صحة صلاة الصف المستطيل الذي يزيد طوله على سمت الكعبة بأضعاف مضاعفة وإن كان الصف مستقيمًا لا انحناء فيه ولا تقوس‏.‏

فـإن قيل‏:‏ مع البعد لا يحتاج إلى الانحناء والتقوس كما يحتاج إليه في القرب، كما أن الناس إذا استقبلوا الهلال أو الشمس أو جبلاً من الجبال فإنهم يستقبلونه مع كثرتهم وتفرقهم، ولو كان قريبًا لم يستقبلوه/ إلا مع القلة والاجتماع، قيل‏:‏ لا ريب أنه ليس الانحناء والتقوس في البعد بقدر الانحناء والتقوس في القرب، بل كلما زاد البعد قل الانحناء، وكلما قرب كثر الانحناء، حتى يكون أعظم الناس انحناء وتقوسًا الصف الذي يلى الكعبة، ولكن مع هذا فلابد من التقوس والانحناء في البعد إذا كان المقصود أن يكون بينه وبينها خط مستقيم، بحيث لو مشى إليه لوصل إليها؛ لكن يكون التقوس شيئًا يسيرًا جدًا، كما قيل‏:‏ إنه إذا قدر الصف ميلا ـ وهو مثلاً في الشام ـ كان الانحناء من كل واحد بقدر شعيرة، فإن هذا ذكره بعض من نص وجوب استقبال العين، وقال‏:‏ إن مثل هذا التقوس اليسير يعفى عنه‏.‏

فيقال له‏:‏ فهذا معنى قولنا‏:‏ إن الواجب استقبال الجهة، وهو العفو عن وجوب تحري مثل هذا التقوس والانحناء، فصار النزاع لفظيًا لا حقيقة له‏.‏ فالمقصود أن من صلى إلى جهتها فهو مصَلٍّ إلى عينها، وإن كان ليس عليه أن يتحرى مثل هذا‏.‏ ولا يقال لمن صلى كذلك‏:‏ إنه مخطئ في الباطن معفو عنه، بل هذا مستقبل القبلة باطنًا وظاهرًا وهذا هو الذي أمـر به؛ ولهذا لما بنى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مساجد الأمصار كان في بعضها ما لو خرج منـه خـط مستقيم إلى الكعبة لكان منحرفًا، وكانت صلاة المسلمين فيه جائزة باتفاق المسلمين‏.‏

/وبهـذا يظهـر حقيقة قول من قال‏:‏ إن من قرب منها أو من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا على خـط مستقيم؛ لأنـه لا يقـر على خطأ‏.‏ فيقـال‏:‏ هـؤلاء اعتقـدوا أن مثل هذه القبلـة تكـون خطأ وإنما تكون خطأ لو كان الفرض أن يتحرى استقبال خط مستقيم بين وسـط أنفه وبيـنها، وليس الأمـر كذلك، بل قد تقدم نصوص الكتاب والسنة بخلاف ذلك‏.‏

ونظير هذا قول بعضهم‏:‏ إذا وقف الناس يوم العاشر خطأ، أجزأهم‏.‏ فالصواب أن ذلك هـو يوم عرفة باطنا وظاهراً، ولا خطأ في ذلك، بل يوم عرفة هو اليوم الذي يعرف فيه الناس، والهـلال إنما يكـون هـلالا إذا استهله الناس، وإذا طـلع ولم يستهلـوه فليس بهـلال، مع أن النزاع في الهـلال مشهور‏:‏ هل هو اسم لما يطلع وإن لم يستهل به، أو لما يستهل به‏؟‏ وفيه قولان معروفان في مذهب أحمد وغيره، بخلاف النزاع في استقبال الكعبة‏.‏

ويدل على ذلك أنه لو قيل بأن على الإنسان أن يتحرى أن يكون بين وسط أنفه وجبهته وبينها خط مستقيم، قيل فلابد من طريق يعلم بها ذلك فإن اللّه لم يوجب شيئا إلا وقد نصب على العلم به دليلا، ومعلوم أن طريق العلم بذلك لا يعرفه إلا خاصة الناس مع اختلافهم فيه، ومع كثرة الخطأ في ذلك‏.‏ ووجوب استقبال القبلة عام/ لجميع المسلمين، فلا يكون العلم الواجب خفياً لا يعلم إلا بطريق طويلة صعبة مخوفة، مع تعذر العلم بذلك أو تعسره في أغلب الأحوال‏.‏

ولهذا، كان الذين سلكوا هذه الطريق يتكلمون بلا علم مع اختلافهم في ذلك، والدليل المشهور لهم الجدي والقطب، فمنهم من يقول‏:‏ القطب هو الجدي، وهو كوكب خفى‏.‏ وهذا خطأ من ثلاثة أوجه‏:‏ فإن القطب ليس هو الجدي، والجدي ليس بكوكب خفى؛ بل كوكب نيِّر، والقطب ليس ـ أيضًا ـ كوكبًا‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ الجدي هو كوكب خفى، وهو خطأ‏.‏ وجمهورهم يقولون‏:‏ القطب كوكب خفى، ويحكون قولين في القطب هل يدور أو لا يدور‏؟‏ وهذا تخليط‏.‏ فإن القطب الذي هو مركز الحركة لا يتغير عن موضعه، كما أن قطب الرحى لا يتغير عن موضعه‏.‏ ولكن هناك كوكب صغير خفى قريب منه‏.‏

وهذا إذا سمي قطبًا كان تسميته باعتبار كونه أقرب الكواكب إلى القطب، وهذا يدور، فالكواكب تدور بلا ريب، ومدار الحركة الذي هو قطبها لا يدور بلا ريب، فحكاية قولين في ذلك، كلام من لم يميز بين هذا وهذا، والدليل الظاهر هو الجدي‏.‏ والاستدلال به على العين إنما يكون في بعض الأوقات، لا في جميعها، فإن القطب إذا كانت الشمس في وسط السماء عند تناهي قصر الظلال، يكون القطب محاذيًا للركن الشامي من البيت الذي يكون عن/يمين المستقبل للباب، فمن كان بلده محاذيًا لهذا القطب ـ كأهل حران ونحوهم ـ كانت صلاتهم إلى الركن؛ ولهذا يقال أعدل القبل قبلتهم‏.‏

ومن كان بلده غربي هؤلاء ـ كأهل الشام ـ فإنهم يميلون إلى جهة المشرق قليلا بقدر بعدهم عن هذا الخط، فكلما بعدوا ازدادوا في الانحراف، ومن كان شرقي هؤلاء ـ كأهل العراق ـ كانت قبلته بالعكس؛ ولهذا كان أهل تلك البلاد يجعلون القطب وما قرب منه خلف أقفائهم، وأهل الشام يميلون قليلا، فيجعلون ما بين الأذن اليسرى ونقرة القفا أو خلف الأذن اليسرى بحسب قرب البلد وبعده عن هؤلاء، وأهل العراق يجعلون ذلك خلف الأذن اليمنى، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لم يأمروا أحدًا بمراعاة القطب، ولا ما قرب منه، ولا الجدي، ولا بنات نعش، ولا غير ذلك‏.‏

ولهذا أنكر الإمام أحمد على من أمر بمراعاة ذلك وأمر ألا تعتبر القبلة بالجدي، وقال‏:‏ ليس في الحديث ذكر الجدي، ولكن ما بين المشرق والمغرب قبلة، وهو كما قال‏.‏ فإنه لو كان تحديد القبلة بذلك واجبًا أو مستحبًا، لكان الصحابة أعلم بذلك، وإليه أسبق، ولكان النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّن ذلك‏.‏ فإنه لم يدع من الدين شيئًا إلا بينه، فكيف وقد صرح بأن ما بين المشرق والمغرب قبلة، ونهى عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول‏؟‏ ومعلوم باتفاق /المسلمين أن المنهى عنه من ذلك ليس هو أن يكون بين المتخلى وبين الكعبة خط مستقيم، بل المنهى عنه أعم من ذلك، وهو أمر باستقبال القبلة في حال، كما نهى عن استقبالها في حال‏.‏ وإن كان النهى قد يتناول ما لا يتناوله الأمر‏.‏ لكن هذا يوافق قوله‏:‏ ‏(‏ما بين المشرق والمغرب قبلة‏)‏‏.‏

وأيضًا، فإن تعليق الدين بذلك يفضى إلى تنازع الأمة واختلافها في دينها، واللّه قد نهى عن التفرق والاختلاف‏.‏ فإن جماهير الناس لا يعلمون ذلك تحديدًا‏.‏ وإنما هم فيه مقلدون لمن قرب ذلك‏.‏ فالتحديد في هذا متعذر أو متعسر‏.‏ ومثل هذا لا ترد به الشريعة، والذين يَدَّعُون الحساب ومعرفة ذلك تجد أكثرهم يتكلمون في ذلك بما هو خطأ، وبما إذا طولبوا بدليله رجعوا إلى مقدمات غير معلومة، وأخبار من لا يوثق بخبره‏.‏ والذين ذكروا بعض ذلك من الفقهاء هم تلقوه عن هؤلاء، ولم يحكموه، فصار مرجع أتباع هؤلاء وهؤلاء إلى تقليد يتضمن خطأ في كثير من المواضيع، ثم يدعى هذا أن هذه القبلة التي عينها هي الصواب دون ما عينه الآخر، ويدعى الآخر ضد ذلك، حتى يصير الناس أحزابًا وفرقًا، وكل ذلك مما نهى اللّه عنه ورسوله‏.‏

وسبب ذلك أنهم أدخلوا في دينهم ما ليس منه، وشرعوا من الدين ما لم يأذن به اللّه، فاختلفوا في تلك البداعة التي شرعوها؛ لأنها/ لا ضابط لها، كما يختلف الذين يريدون أن يعلموا طلوع الهلال بالحساب، أو طلوع الفجر بالحساب، وهو أمر لا يقوم عليه دليل حسابى مطرد، بل ذلك متناقض مختلف، فهؤلاء أعرضوا عن الدين الواسع والأدلة الشرعية فدخلوا في أنواع من الجهل والبدع، مع دعواهم العلم والحذق، كذلك يفعل اللّه بمن خرج عن المشروع إلى البدع، وتنطع في الدين‏.‏

وقد ثبت في الصحيح ـ صحيح مسلم ـ عن الأحنف بن قيس، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏هلك المتنطعون‏)‏ قالها ثلاثًا، ورواه ـ أيضا ـ أحمد وأبو داود وأيضا، فإن اللّه قال‏:‏ ‏{‏فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 149‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 148‏]‏، أي‏:‏ مستقبلها‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هذه القبلة‏)‏‏.‏ والقبلة ما يستقبل‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، ذلك المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا ‏)‏‏.‏

وأجمع المسلمون على أنه يجب على المصلى استقبال القبلة في الجملة‏.‏ فالمأمور به الاستقبال للقبلة، وتولية الوجه شطر المسجد الحرام، فينظر هل الاستقبال وتولية الوجه من شرطه أن يكون وسط وجهه مستقبلا/ لها ـ كوسط الأنف وما يحاذيه من الجبهة والذقن ونحو ذلك‏؟‏ أو يكون الشخص مستقبلا لما يستقبله إذا وجه إليه وجهه وإن لم يحاذه بوسط وجهه‏؟‏ فهذا أصل المسألة‏.‏

ومعلوم أن الناس قد سن لهم أن يستقبلوا الخطيب بوجوههم ونهوا عن استقبال القبلة بغائط أو بول، وأمثال ذلك مما لم يشترط فيه أن يكون الاستقبال بوسط الوجه والبدن، بل لو كان منحرفا انحرافا يسيرًا لم يقدح ذلك في الاستقبال‏.‏

والاسم إن كان له حد في الشرع رجع إليه، وإلا رجع إلى حده في اللغة والعرف، والاستقبال هنا دل عليه الشرع واللغة والعرف‏.‏ وأما الشارع فقال‏:‏ ‏(‏ما بين المشرق والمغرب قبلة‏)‏ ومعلوم أن من كان بالمدينة والشام ونحوهما إذا جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه فهو مستقبل للكعبة ببدنه، بحيث يمكن أن يخرج من وجهه خط مستقيم إلى الكعبة، ومن صدره وبطنه، لكن قد لا يكون ذلك الخط من وسط وجهه وصدره‏.‏ فعلم أن الاستقبال بالوجه أعم من أن يختص بوسطه فقط‏.‏ واللّه أعلم‏.‏